عندما دخلت السجن لأول مرة فى حياتى فى عام 2006 إثر اعتقالات التضامن مع القاضيين «مكى للأسف»، وهشام البسطويسى، كنت موقنا من شىء واحد، أنه لن يستطيع أى شخص جرب برد الزنزانة، أن يلقى بأى أحد آخر فى زنازين.
كان لدى يقين، أن حتى أعتى الأعداء، إن كان قد جرب برد الزنزانة، سيستيقظ ضميره، أو تطارده ذكريات ساعات البرد، التى تشعر فيها بانسحاب روحك من أطرافك الميتة، وتتمنى أن تهرب روحك ولا تعود مرة أخرى لهذا الجسد.
كان لدى يقين، أنه مهما حدث، ومهما فَجَرَ العدو، لن يستطيع، لن يقبل، لن ينسى، ولن ولن، لكن يبدو أن حماقتى وسذاجتى لن يتغيرا، وعلمت الآن، وتأكدت أن المظلوم يستطيع بسهولة أن يظلم.
«كان الرفاق فى الزنزانة، لا يذكرون للسادات أى خير، سوى السجون، كانوا يخبروننا، أن بكل مساوئ السادات، لم يعذب أحدا داخل السجون، ولم يعانى أحد من البرد، وأن أفضل معاملة تلقوها كانت فى سجون السادات، أخبرونى أن السبب أن السادات سجن من قبل، وذاق معنى العجز-البرد داخل الزنزانة».
أحب أذكر معالى كرسى الرئاسة وحاشيته ببرد الزنازين، والقهر والعجز المرتبطين بها، أحب أذكرهم بنومنا مثل الدجاج، المتراص بجوار بعضه، طالبين لأى قدر من الدفء وإن كان كاذبا، أحب أن أذكرهم بذلك الفتى أو الشيخ، الذى كان ينتفض طوال الليل، ونصحو جميعا، محاولين إلقاء كل الأغطية عليه، فى محاولة لإنقاذه من هجمة البرد، وبكاؤنا لقلة حيلتنا فى مساعدتهم، وصراخنا، والدق على باب الزنزانة، أن هناك واحدا منا يموت من البرد، ولا مجيب، أحب أن أذكرهم بأحدنا جالسا تحت قدم المنتفض يفركها، محاولا الانتصار على اللون الأزرق الزاحف عليها من كل اتجاه بلا فائدة، أحب أن أذكرهم بالبكاء داخل السجون من قهر البرد لا الألم، وكيف أن كل التعذيب والضرب والإهانة لا يساوى لحظة العجز تلك المرتبط بنفضة البرد وتجمد الأطراف وقلة الحيلة.
هناك علمت لأول مرة معنى الحديث «اللهم أعوذ بك من قهر الرجال».
هناك علمت معنى قهر الرجال..
لكن أعتذر مرة أخرى، فسذاجتى ما تربيت عليه، أو تأصل فى جيناتى، منعونى من التفكير جيدا..
فحينما كنا فى سجون طرة تحقيق -استئناف- مشدد حراسة-أو برج العرب، كانوا هم فى سجون المزرعة وعنبر الزراعة، ولمن لا يعرف فالفرق مهول، كما الفرق بين النائم-الميت بردا تحت كوبرى، وبين المتدفئ بتدفئة مركزية.
أعتذر، فحتى فى أحلك اللحظات، كان السادة يرفلون فى نعيم التدفئة فى سجون ذات نجوم خمسة، ونحن نرى نفس تلك النجوم فى هلاوس البرد وانتفاضاته، وانعدام التدفئة.
فى السجن، لا يوجد إحساس بالقهر كما إحساس البرد، كل الاشتياق يعود إليك مع العجز عن إيجاده، تتذكر سرير أمك-جدتك، وتلك القدرة المهولة على بث الحرارة فى كل أرجاء المنزل، تتذكر محاولاتها وأنت مراهق لتدفئتك، وعندما تعجز هى عن فعل ذلك، تلح عليك أن تأتى وترقد بجوارها، وأنت ترفض بشدة، لأنك أصبحت رجلا الآن، ولا يصح أن تنام بجوارها، لأن الرجل لا يعتمد على أحد آخر، وبعد أن تتركك، تتسلل إليها بعد قليل، مثل فرخ صغير، تنكمش بجوارها طلبا للدفء، والنوم، وطبق الأرز باللبن الموعود لك من الملائكة.
داخل برد الزنزانة، لا يوجد داخلك غير صورة أمك، تحاول أن تطلب الدفء منها، تحاول أن تستنجد بها من ذلك الألم الذى يعتصر أطرافك، وقلبك، وكل أعضاء جسدك، تحرق ألف سيجارة، لا تزيد الوضع إلا سوءا واختناقا.
تتنسم كوب الشاى، تتنسم رائحة نعناعه، تتنسم رائحته داخل الفم، الذى تزغرد له باقى أعضائك فرحا، بمرور ذلك السائل الساخن المسَكر داخل مريئك ومعدتك...
داخل برد الزنزانة، لا قوى ولا ضعيف، لا شيخ ولا صغير، كلنا مخلوقات هشة، تبحث عن أى مظهر من مظاهر الطمأنينة، تبحث عن رائحة أمك، تبحث عن رائحة النار، تبحث عن صورة جدتك، تبحث عن أى شىء من ذكرياتك يبعث ولو قليل من الدفء على روحك، لكن لا مفر..
فإن استسلمت لذكرياتك، فسيوقظك أنين رفيقك، أو رعشة جسد لا تزول لآخر، أو بكاء مراهق لم يتعد السابعة عشرة، طالبا أمه، وتعرف الفرق الوحيد لحظتها بينكم وبينه.. إننا نصرخ طالبين أمهاتنا، لكن سرا، لأننا كما تربينا، نحن رجال، وعيب علينا، أن نصرخ أو نصرح بأسمائهن، حتى وإن كنا ننهار، ونعلم أنه لن ينقذنا سواهن.
إلى كل رفيق- زميل فى كل الزنازين، أعتذر لك، أعتذر إن كنت نائما دون غطاء، أعتذر أننا تركنا الدود يحكمنا، أعتذر عن كل لحظة مرت أو تمر بك، أعتذر عن طغاة تخلوا عن أى معنى من معانى الإنسانية، لا نستنجدهم، لكن نذكرهم، أن لحظة كهذه ستعود عليكم من جديد، لكننا وقتها لن نترككم، كما ما تركناكم من قبل.
وكما نقول «لنا رب اسمه الكريم»، ولنا ثورة لن تتخلى عنا أبدا.
مالك مصطفى، ساذج من سذاج هذا البلد، توقع أن من ذاق قرصة البرد داخل الزنزانة، لن يجعل غيره مهما كان يعانيها مرة أخرى، لكن للأسف.
شاركنا رأيك وكن اول من يقوم بالتعليق :)[ 0 ]
إرسال تعليق