فى تراثنا الشعبى لا تهدأ روح القتيل ظلما وعدوانا إلا بعد أن يتم القصاص من قاتله. القصاص هنا لا يهدف إلى الأخذ بالثأر وإرضاء غريزة الانتقام، بل إلى تحقيق العدل، وتأكيد أن النفس البشرية غالية لا يمكن الاستهانة بحقها فى الحياة الذى هو أول الحقوق. وما لم يشعر الإنسان بالأمان على حياته، وقدسية روحه، فلن يستطيع أن يمارس أيا من حقوقه الأخرى. ولكل ذلك لن يهدأ بال أسر آلاف الشهداء الذين فقدوا أرواحهم الغالية منذ أن انطلقت ثورة 25 يناير قبل أن يتم القصاص لأحبائهم، ومحاسبة المسؤولين عن قتلهم.
هذه الأيام، حلت الذكرى الثانية لسقوط شهداء ما يعرف بأحداث مجلس الوزراء. الأحداث كثيرة ومتلاحقة وسريعة، وبها دائما كثير من الدماء المهدرة على مدى السنوات الثلاث الماضية. وكل حكومة تأتى بعد سقوط مبارك تتعهد بالقصاص، فقط لتضيف مزيدا من الشهداء وإهدار الأرواح إلى سجلها. ولكن صورة الشيخ عماد عفت، هذا الرجل الذى كان يجعل الناس تحب الإسلام من فرط طيبته ومحبته، محمولا على الأيدى، مخضبا فى دمائه ويسلم أنفاسه الأخيرة فى أثناء نقله لعربة الإسعاف فى خضم أحداث مجلس الوزراء لا تزال ماثلة فى ذهنى، لا تفارقنى، وكأنها تطاردنى تسألنى ماذا فعلت من أجل القصاص لروحى؟
وكذلك صورة طالب الطب علاء عبد الهادى، والفيديوهات الخاصة بالشاب الممتلئ بالحيوية محمد مصطفى «كاريكا»، ومعهم الشهداء أحمد منصور، ورامى الشرقاوى، وكل من فقدوا أرواحهم فى تلك الأيام المشؤومة. هى أسماء لبشر، 17 مواطنا لقوا مصرعهم جميعا على مدى نحو أربعة أيام قبل عامين، ولكن أرواحهم ستبقى تلاحقنا تسألنا عن القصاص، خصوصا أنه حتى الآن، لم يتم اتخاذ إجراء حقيقى واحد نحو تحديد المسؤولين عن قتلهم، والأهم، محاسبتهم عن جرائمهم.
ولا ننسى بالطبع أن هؤلاء الشهداء قد لقوا مصرعهم فى فترة الحكم المباشر للمجلس العسكرى، وبعضهم فى اشتباكات مع جنود وضباط الجيش، وهو ما يزيد من صعوبة تطبيق مبدأ المحاسبة، أو حتى معرفة إذا كان قد تم تحقيق من الأساس، مع الوضع فى الاعتبار أنه ما دام قد سقط قتلى، فإن أخطاءً فادحة قد وقعت بالتأكيد، ولا بد أن يكون هناك مسؤولون يجب محاسبتهم. وكان أقصى ما ذهب إليه القائمون على المجلس العسكرى فى ذلك الوقت القول إن تحقيقات داخلية جرت بشأن حوادث القتل وسحل «ست البنات» مع مطالبتنا دائما بتقدير حجم الضغط الذى يعانى منه الجنود والضباط فى أثناء قيامهم بمهامهم.
من أهم أركان الدولة الأمنية القمعية التى أقامها نظام الرئيس المخلوع مبارك هو منح الحماية المطلقة للقائمين على الأجهزة الأمنية، بحيث يضمنون أنه مهما بلغ حجم تجاوزاتهم من تعذيب أو قتل، فلن تتم ملاحقتهم أو محاسبتهم. السماح بالتهرب من العقوبة ومنح القائمين على الأجهزة الأمنية الحصانة من الملاحقة يهز أهم أسس دولة القانون، ومن أهم معالم الدولة القمعية السلطوية التى تغيب فيها الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.
وفى أحداث مجلس الوزراء تحديدا، لم يتم الاكتفاء فقط بانعدام المحاسبة وتحديد المسؤولين عن سقوط شهداء، بل تم أيضا عقاب الضحايا ممن تعرضوا للضرب والسحل والتعذيب على يد قوات الجيش والشرطة فى تلك المواجهات. وحتى الآن لم تنته محاكمة 269 متهما، بينهم تسع فتيات، وجهت لهم السلطات تهم التعدى على الممتلكات ورجال الأمن فى أحداث مجلس الوزراء وحرق المجمع العلمى. وكان آخر إجراء اتخذته الهيئة القضائية التنحى عن نظر القضية، وما زال المتهمون فى انتظار حكم نهائى لتحديد مصيرهم، ولم يستفيدوا من العفو الذى منحه الرئيس السابق محمد مرسى لكل من تم إلقاء القبض عليهم فى اضطرابات سياسية فى فترة حكم المجلس العسكرى.
ولفترة رئاسة مرسى تحديدا مرارة كبيرة فى حلق أسر شهداء مجلس الوزراء. فالرجل الذى كانت تقوم دعايته الانتخابية على التعهد بالقصاص للشهداء والقول إن «حقهم فى رقبتى»، قام بالفعل بتشكيل لجنة لتقصى الحقائق من قضاة مستقلين للنظر فى كل المواجهات التى أدت لسقوط قتلى على مدى الفترة التى سبقت توليه منصب الرئاسة فى الأول من يوليو 2012. ورغم قيام هذه اللجنة بالانتهاء من عملها قبل عام بالتمام والكمال، فلقد بقى تقريرها سريا، ولم يتسرب منه للصحف الأجنبية فى عهد مرسى سوى الأجزاء التى تدين تصرفات جنود وضباط الجنود المسلحة، وذلك في إطار المعركة غير المعلنة على النفوذ التي كانت قائمة بين الطرفين. والأسوأ أن الرئيس السابق الذى يزعم أنصاره الآن أنهم يدافعون عن ثورة 25 يناير لم يكلف نائبه العام-الخاص السابق بتحريك ولو قضية واحدة ضد أى من المسؤولين المحتملين عن قتل الشهداء بناء على الأدلة التى قالت التقارير إن لجنة التحقيق القضائية توصلت إليها.
وحتى حكومة ما بعد 30 يونيو لم تنفذ تعهداتها بالتحقيق فى كل حوادث قتل الشهداء منذ ثورة 25 يناير، أو فى أحداث الحرس الجمهورى والمنصة وفض اعتصامى رابعة والنهضة فى أعقاب عزل مرسى، التى بلغ عدد القتلى فيها نحو ألف مواطن مصرى. وبعد أن استبشر كثيرون بتشكيل وزارة خاصة للعدالة الانتقالية يرأسها قاض دولى سابق له سمعة طيبة على مستوى العالم، لم تفعل هذه الوزارة أى شىء، ولم تتقدم بتقرير واحد أو تعلن عن البدء فى تحقيق جدى. إذا أردنا بناء دولة جديدة بالفعل، فلا يمكن أن نتعامل باستهانة مع إهدار أرواح المواطنين والسماح لمن قاموا بقتلهم بالتهرب من العقوبة. من دون ترسيخ هذا المبدأ، فإنه من المؤكد أن ثورة لم تقم بعد.
شاركنا رأيك وكن اول من يقوم بالتعليق :)[ 0 ]
إرسال تعليق