لا يكاد يمر يوم دون خبر عن مُحتَجَزٍ جديدٍ أو ما يزيد؛ شاب، طالبة جامعية، كهل، وربما طفل أيضاً. الرسالة الواضحة هي: ما من أحد بمأمن طالما شذ عن تأييد النظام. تضم السجون معتقلين ومعتقلات من مختلف المشارب والمِلَل، يشترك أغلبهم في رفض الوضع القائم وفي التطلع إلى الخلاص من الظلم والتنكيل، ومن قيود الاستبداد التي عادت تلتف حول الأعناق بضراوة.
قبل الخامس والعشرين من يناير كانت هناك حالات اعتقال واختفاء قسريّ كثيرة، قد لا يُرى أصحابُها إلا عند حملهم إلى القبور، كانت هناك قضايا تعذيب تنتهي بإفلات الجاني من العقاب؛ قد تُحفَظُ فيها
التحقيقات دون أن تصل إلى مرحلة التقاضي، وقد يتصالح فيها المجني عليه مع الجاني؛ ليس رغبة منه في المصالحة، بل بعد ضغوط وتهديدات لا أول لها ولا آخر. كثيراً ما صادفت بحكم عملي أصحاب الحالات السابقة، كنت أتابعهم والكمد يغمرني، والغيظ يكاد يقتلني من المسار الأعوج الذي تضيع فيه الحقائق فيصبح الجاني بطلاً، والمجني عليه منبوذاً وموصوم.
كثيراً ما التقيت أشخاصاً انتُهِكَت بيوتهم وكرامتهم وانهار كبرياؤهم، وهم يقبلون التنازل عن حقوقهم لأسباب متباينة؛ إما يأساً من استرجاعها بسبب القوانين التي تحفها الثغرات، أو ثقةً في تواطؤ الدولة مع الجناة وحمايتها لهم بدافع من المصالح المتبادلة، وفي بعض الأوقات طلباً للأمان وخوفاً من التعرض للإيذاء مرة أخرى. كنت أصبر وأمني نفسي بيوم ينتزع فيه كل صاحب حق حقه دون أن يخشى أي شيء في الوجود.
مرت سنوات وأخيراً جاء يوم سقط فيه رأس النظام الذي حمى الجلادين، سقط من فوق العرش بيسر كما لو كان تاريخ صلاحيته قد انتهى. أردت كما فعل الكثيرون أن أبدأ تقويماً جديداً بعد فبراير 2011، انتظرت أن تهبط العدالة وتصل إلى المظلومين، ومثلما فعل بعض أصدقاء وشركاء رحلة الثورة، تناسيت في غمار النشوة أن سماء الحكم الاستبداديّ لا تمطر -مهماً أمطرت- سوى قمعٍ وترويع.
على مدار سنوات ثلاث هي عمر الحركة الثوربة حتى يومنا هذا، لم تكف الدولة وأجهزتها القمعية المتعافية عن انتهاك حقوق المواطنين الذين يعارضون توحشها وتغولها، والذين يرفضون التسليم بانقضاء الثورة وبتحلل مطالبها وتلاشيها. مِن بين هؤلاء الآن مَن يُختَطَفُون مِن الشوارع ومَن يُنتَزَعون مِن البيوت، ومَن يُلقَون في المعتقلات، ومَن تُلقى عليهم التهم المعتادة جزافاً، بعضهم يقضي في السجون أياماً أو شهوراً وسنين دون جُرم، وبعضهم يستعيد حريته إذ ما حالفه الحظ أثناء المحاكمة ببراءة مستحقة، لكنها تظل براءة ملونة بطعم الظلم والإذلال والتشويه.
بضعة آلاف رجل وامرأة قيد الاحتجاز، وما من سبب قانوني مقبول في أغلب الأحوال؛ أشخاص كانوا ضمن الثائرين، قادة أو أفراد عاديين وسط الجموع، منهم من حمل الجرحى وطاف يشد مِن أزر المعتصمين، ومنهم من هتف وصرخ وبات على إسفلت الأرض طالباً النصر والحرية، ومن كان على استعداد للموت دونهما. الآن؛ يستوطن هؤلاء سجون الدولة ومخابئها وزنازينها القاتمة، يسعى المحامون لتحريرهم فلا يتمكنون، ويحاولون طمأنة ذوييهم فلا يجدون ضمانات ولا مؤشرات تكفي للطمأنة وبث الثقة والسكينة. الآن يُوضَع في الأقبية وخلف القضبان مَن لا يزال متشبثاً بالحلم وقادراً على رؤيته متحققاً في مستقبل قادم، من لا تزال لديه البصيرة وسلامة الطوية، ومَن لا يزال مُصِرّاً على الصمود أمام الجلادين حتى وإن كان يقاوم في وحدته تياراً معاكساً يجرف معه الجميع.
ينصاع بعضنا إلى معطيات الواقع التعس، فيخضع ويطأطئ الرأس، ويلج فضاء التبريرات والأحاجي، تغمرنا التفاصيل والأحداث المتعاقبة وتدفعنا في اتجاهات متشعبة ومتاهات سخيفة، ننسى أن مقاصدنا لم تتحقق بعد؛ ننسى رغم حالنا المرعبة، رغم أن العدالة لا تزال غائبة والحريات معطلة والحقوق مسلوبة، ولا يزال الجناة محصنين.. لا محاسبة ولا عقاب، ننسى لكن هناك مَن لا ينسون.
ربما يدور السؤال الحالي حول جدوى وعدالة المقايضة المطروحة على الجماهير: الأمن والاستقرار مقابل الحرية وكرامة العيش. ما من إجابة حاسمة حتى اللحظة، لكني أظن أن الرد سوف يأتي عما قريب على غير ما ئشتهي السلطة، رد يكسح أمامه بقايا الوهن والترهات ويعيد روح الحرية إلى مجدي وخالد وسلسبيل وناجي والسيد وأسماء و...، وكل من حاولت دهسهم أقدام الجلادين، وكما يجد النظام من يصفق ويؤيد ويغني، فسيجد أيضاً مَن لا ينحني مهما طال الوقت وغامت الرؤية، هناك من سوف تعطيه السجون صلابة تنصهر أمامها الأغلال وتذوب.
شاركنا رأيك وكن اول من يقوم بالتعليق :)[ 0 ]
إرسال تعليق