ألقى الحجر الأول فى وجه النظام وتنبأ بسقوط «مبارك» إذا خرج ضده مليون مواطن.. وحذر من فساد المرحلة الانتقالية.. وانسحب من لعبة الرئاسة.. واستقال من منصبه بعد 30 يونيو مع بدء إعلان «الحرب».
دعا للتغيير داخل مصر بينما هو فى الخارج، وبعد 3 سنوات من التغيير كان مصيره إلى الخارج مجدداً. وضعته أغلبية الحسابات السياسية فى مقدمة قائمة المستفيدين من الثورة التى دعا لها، فانقلبت الحسابات أكثر من مرة، ليقرر الرجل الخروج من المشهد إجمالاً، على غير المتوقع، بعد أن وصل للاتحادية. جاء غريباً، ورحل وحيدا. وصل إلى مصر تسبقه اتهامات بالتخوين والعمالة، ورحل عنها تلاحقه الاتهامات نفسها.. كأن ثورة لم تقم.
الدكتور محمد البرادعى جاء من خارج المدينة يسعى، ألقى حجراً فى مياه شبه راكدة، تحركت جموع شابة أملاً وطمعاً فى التغيير، وعلى استحياء انضم إلى الصف بعض شيوخ «النخبة الرخوة»، كانوا جميعاً فى مقدمة الصف الثورى يوم 25 يناير 2011، بينما «البرادعى» فى الخارج. تحركت كرة الثلج، فجاء الرجل سريعاً ليقتحم الكادر قبل 28 يناير. بدأ «البرادعى»، المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، والحاصل على جائزة نوبل للسلام، معركة جديدة للتغيير فى مصر، مع صباح يوم 19 فبراير 2010، حين عاد إلى مصر بعد مشوار طويل فى العمل الدولى، واصطف فى مطار القاهرة نحو 3 آلاف شاب راغبين فى استقبال ملهمهم الذى نصَّبوه «رئيساً لجمهورية الضمير»، ورددوا: «شد القلوع يا برادعى.. مفيش رجوع يا برادعى». هتاف تحول إلى ترنيمة يتبارك بها «دراويش البرادعى» فى كل الفعاليات الجماهيرية اللاحقة.
«متى يفهم النظام أن التغيير حتمى؟»، كانت أولى قذائفه فى مواجهة نظام «مبارك»، وأتبعها بنبوءة تحققت بعد أقل من عام: «إذا خرج مليون مواطن إلى الشارع سيسقط النظام»، فى وقت كانت فيه أكبر الاحتجاجات حشداً لا تتجاوز 3 آلاف متظاهر، ما دفع البعض للسخرية ممن وصفوه بـ«المناضل الإلكترونى» و«المناضل السائح»، الذى لا يعرف عن مصر شيئاً، لكن الواقع كان أكثر إدهاشاً؛ إذ تحققت نبوءة الرجل الذى قالوا عنه إنه «مناضل سائح» بعد أقل من عام، بخروج ملايين المصريين فى 25 يناير.
أمسك «البرادعى» بـ«ميكروفون الثورة» فى قلب ميدان التحرير، يوم 30 يناير 2011، قائلاً: «اليوم استعدنا حريتنا.. ولنا مطلب واحد هو الرحيل فوراً»، موضحاً سيناريو إدارة المرحلة الانتقالية بحسب ما يرى، يبدأ بتكليف «مجلس رئاسى مدنى» أو «رئيس مؤقت» لإدارة البلاد، وتشكيل حكومة إنقاذ تضم خبراء يتمتعون بصلاحيات واسعة، تمهيداً لوضع دستور دائم للبلاد، ثم إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية. خريطة طريق رسمها «البرادعى» فى ميدان التحرير أثناء ثورة الغضب، لم يستجب لها المجلس العسكرى الذى تولى إدارة شئون البلاد عقب تنحى الرئيس الأسبق.
عارض أستاذ القانون الدولى «تعديلات 19 مارس»، قائلاً: «واجبنا رفض تعديلات تبتعد عن مسار الثورة، وتمهد لإجراء الانتخابات أولاً دون دستور»، وتابع: «هذه العشوائية ستؤدى بنا إلى خلق فرعون جديد، وانتخاب برلمان لا يعرف صلاحياته ومشكوك فى شرعيته، ونشوب صراعات بين السلطات، وصدام محتمل»، وحذر: «سنعود للمربع صفر من جديد.. لماذا نضيّع الوقت؟».
لم ينتبه أحد لتحذيرات «الغريب» وأُجريت الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وتسلمت «الجماعة» السلطة، وبعد عام واحد من «الحكم الإخوانى»، شهد تداخلاً بين السلطات وعشوائية سياسية وقانونية ودستورية، تحققت «النبوءة الثانية» بالعودة للمربع صفر، وخروج المصريين مجدداً للميادين، مرددين ما هتفوا به منذ أكثر من عامين ونصف العام: «الشعب يريد إسقاط النظام»، وكأن ثورة لم تقم، وكأن نظاماً لم يسقط.
فى أقل من 72 ساعة سقط «حكم المرشد» وشارك «البرادعى»، ممثلاً عن جبهة الإنقاذ وشباب 30 يونيو، فى وضع خريطة المستقبل، التى أعلن عنها وزير الدفاع الفريق أول عبدالفتاح السيسى فى 3 يوليو الماضى. ثم أصبح مؤسس «الإنقاذ» قاب قوسين أو أدنى من رئاسة الحكومة الانتقالية، لكنه عُيِّن فى اللحظة الأخيرة نائباً لرئيس الجمهورية للشئون الدولية، المنصب الأول الذى يتقلده محمد البرادعى رسمياً، بعد شهور من مواجهة رئيسين ودستورين وعدة حكومات. وكان القدر أسرع من أن يبقى «البرادعى» فى معسكر السلطة طويلاً، أعلن الرجل استقالته عقب فض اعتصام «رابعة العدوية»، احتجاجاً على ما وصفه بـ«الاستخدام المفرط للقوة».
استقالة «البرادعى» جمَّدت أرصدته لدى كل القوى السياسية التى شاركت فى 30 يونيو، وخفضت أسهم شعبيته التى ارتفعت فى ظل مشاركته فى «خريطة الطريق» ودخوله دائرة صنع القرار لأول مرة رسمياً. نزل الرجل عن خشبة المسرح، ليجلس على مقاعد المتفرجين بالصف الآخير.. فهل يكون له دورا جديدا في فصل آخر من المسرحية.. أم يسدل الستار بنهاية "غير سعيدة" لرجل حرثَ كثيرًا، ولم يحصد شيئا.
شاركنا رأيك وكن اول من يقوم بالتعليق :)[ 0 ]
إرسال تعليق