اختاروا يومًا، لأرقامه وتجاورها وقْع غامض/ كأنها مواعيد من مواعيد القدر المختفى فى بنّورات العرافات السحرية/ أو فى ورقة صفراء مثنيّة فى كتاب محفوظ/ إنه يوم ظهور الجنرال/ الذى فى مهمة/ يلاعب آلهة المخابرات دورًا فى شطرنج كونىّ.
الجنرال سيعود، والموعد دعوة للشعب بأن يتجمع فى ساحة لم تحدِّد بعد مطالب بالظهور فى يوم تلتقى عنده علامات القدر.. كما كان هناك بهرة ينتظرون عودة الحاكم بأمر الله فى شوارع القاهرة الفاطمية، ينتظرونه فى ساحات مسجد باسمه ودكاكين يستثمر فيها أثرياء الطائفة هندية الأصل أموالهم حتى يأذن الله بالعودة الشريفة.. ينتظرونه منذ قرون ولم تتبخر الآمال كما تبخرت عندما هتف المصريون: «الله حىّ.. عباس جاى..» انتظارًا لعودة الخديو عباس حلمى الثانى من منفاه فى الأستانة.
عباس لم يعد ومات فى المنفى لكن الانتظار لم ينتهِ.. كحال الشعوب العاجزة البائسة التى تنتظر من الميتافيزيقا ما تراه مستحيلًا فى الواقع وتتعلق بأهداب الخرافة علَّها تنقذها.. أو علّها تصنع فى الخيال واقعًا افتراضيا/ بديلا/ تبدو فيه الخصومة مع شىء قدرى/ أو تجسيدًا لكل الهزل المختلط بالجد عن مؤامرة كونية يخطط فيها آلهة فى أوليمبٍ معاصر كيف يحوّلون الشخص المقيم فى بيته بحارة ضيقة من حوارى القاهرة إلى جحيم.
هروبًا من هذا الجحيم تنظم الوقفة فى ذلك الموعد ضغطًا من أجل إعادة الجنرال عمر سليمان. هناك آلاف إذن لا تصدق أن جنرالهم مات. وهم اعتبروه يخصهم، لأنه كان صمام الأمان الذى يعرف ما لا يعرفه غيره/ وأنه القادر دون غيره على إعادة جحافل الغزاة.. أو الإخوان والإسلاميين إلى جحورهم.
الجنرال يشرب القهوة فى مخبئه، وهو يتابع كل تفصيلة ويرى كل شىء/ يتجول فى المولات/ وينهض من مقعده فى دار مناسبات عسكرية/ أو يسافر إلى الحج على مقعد متحرك/ معجزة وقوته خرافية.. الجنرال/ لكن «الشعب» يريد ظهوره الآن لا كما يخطط هو/ أو تفرض عليه مهمته فى معركة الآباء فى الجهات السيادية على مستوى العالم.
المواقع والصفحات تنادى الجنرال/ وتنشر صوره/ بينها صورة له فى البرازيل/ وأخرى فى أماكن غير محددة/ لتثبت أنه ما زال حيا/ وعودته مؤكدة.
هؤلاء كانت عيونهم قد احمرت من البكاء على موت «البطل» الذى يعجز عن إقناع طفل صغير بعلامات هذه البطولة.. ويكتفى بالإشارة الملغزة المعجزة «ستعرفون.. بطولته فى ما بعد».
وإذا ضغطت بعض الشىء سيسرب لك صاحب العين الحمراء ما يوحى بأنه كان يحمينا من الخفافيش التى خرجت من المخابئ بعد الثورة.. وتحكم الآن.
الأخلاق هنا تستخدم لحماية من تحمل مسؤوليته.. أى من حمايته لديكتاتور وعصابته.. ارتكب جريمة تجريف البلد من كوادرها.. وحصار كل خيال خارج التوظيف.. وقتل روح الإبداع لصالح انحطاط (وهو وصف لحالة ثقافية وليس مجرد شتيمة).
الانحطاط هو المناخ الذى يجعل حكم العصابة طبيعيا.. وجرائمهم حكمة.. وضيق أفقهم ذكاء.. ومدير مخابراتهم بطلًا.. وطيرانهم تحت الرداد حكمة وعقلا.
الانحطاط بمعناه الذى يقطع الصلة بين الواقع وكل من الماضى والمستقبل.. يجعلها لحظة معلقة تحت ضغط الغرائز والشهوات قوة الأمر الواقع.. تجعل هناك من يرى فى مدير مخابرات بطلا.. وعلى الطرف الآخر.. من ينتظر الإنقاذ على يد خيرت الشاطر.
عمر سليمان رحل فى أمريكا بمرض نادر أو كما تقول الخرافات فى سوريا «بمؤامرة إقليمية على رجال مخابرات هذه المنطقة من العالم..» وهو نوع من الشخصيات تصنع الحكايات منها كيانات أسطورية/ وتلقى السرية بظلالها الخرافية/ فقد كانت صورة عمر سليمان ممنوعة من النشر حتى عام 2003 تقريبا/ يومها نشرتها «معاريف الإسرائيلية» ولم تتخذ الصحيفة التى كنت أعمل فيها قرار النشر إلا بعد التأكيد أنها منقولة من الصحيفة الإسرائيلية.. وكانت حتى هذا التاريخ تُخْلى قاعة مجلس الشعب من المصورين ساعة التجديد لعمر سليمان فى موقعه بالمخابرات.
ومنحه العُبوس والتجهم وهمًا إضافيا كمن يحمل همًّا تراجيديا أو مهمة كونية.. أو تنحشر داخله مشاعر محبوسة تحت ثقل المسؤولية.
عمر سليمان لم يعرف بكل خبراته أن يلعب دور بوتين فى روسيا، المقاتل الماكر الذى حافظ على بناء دولته الأمنية بعد سقوط الشيوعية التى بَنَتْها.
بوتين مدير مخابرات قدّم موديلا للانتقال استوعب وضع روسيا.. وهندس إقامته الطويلة بمراعاة طبيعة شعب خارج من قهر أباطرة الشيوعية.
لكن عمر سليمان فاقد لهذه الملكات أو المواهب أو القدرات خارج حدود مهماته.. يشبه رئيسه.. وعصره.. خرج بوجه كئيب، بينما كانت الثورة ضاحكة وخفيفة ومبهجة.. فخسر صورته التى صنعت سنوات طويلة وبدت محدوديته واضحة بعد خروجه من الغرف المغلقة.
ورغم هذا فهناك أكثر من 25 ألف مصرى يهتفون «الله حى.. الجنرال جاى».. ويجهزون لاحتفالية/ مظاهرة/ وقفة تطالب بالظهور/ التجلى. وهو نوع إغواء جديد على السياسة فى مصر التى تغادر العقل إلى كل ما يتعلق بالهوس/ والتعدد السياسى هنا يبدو تعددًا فى بناء معابد الهوس الافتراضية، فالمنتظرون لعمر سليمان يبنون دعايتهم على: «أن عودته أقرب وأصدق من عودة محمد مرسى».المغادرة على «ميتافيزيقا سياسية» أبطالها إما فى القبور وإما فى السجون/ هو خيال دوار يصنع فراغه/ أو يشغله بما لديه من خرافات ترد على الوهن الذى يفرضه واقع مرعب/ تعيش فيه المدينة أيام الهوس الكبير.
شاركنا رأيك وكن اول من يقوم بالتعليق :)[ 0 ]
إرسال تعليق